فصل: النوع الثالث عشر: المعرفة بمفاخرات الأمم ومنافراتهم وما جرى بينهم في ذلك من المحاورات والمراجعات والمناقضات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد الثالث في معرفة أنساب العجم:

وهم من عدا العرب من الفرس، والترك، والروم، وغيرهم. ويحتاج إلى ذلك في المكاتبات إلى ملوكهم، وعقد الهدن معهم، ونحو ذلك.
والمشهور من الأمم العجمية ست وعشرون أمة:
الأولى: الترك بضم التاء المثناة فوق وسكون الراء المهملة وكاف في الآخر، وهم الأمة المشهورة الذين منهم ملوك الديار المصرية الآن، وهم من بني ترك، بن كومر، بن يافث، بن نوح عليه السلام؛ وقيل: من بني طيراش، بن يافث، ونسبهم ابن سعيد إلى ترك، بن عابر، بن شمويل، بن يافث، قال في العبر: ويدخل في جنس الترك القفجاق، وهم الخفشاج، والطغوغر، وهم التتر. ويقال فيهم التتار بزيادة ألف، والططر بإبدال التاء طاء، والخطا، والخزلخية والخزر، وهم الغز الذين كان منهم ملوك السلاجقة، والهياطلة، وهم الصغدر والغور والغلان، ويقال: اللان، والشركس، والأزكش، والروس فكلهم من جيل الترك ونسبهم داخل في نسبهم.
الثانية: الجرامقة بفتح الجيم وكسر الميم وفتح القاف وهاء في الآخر، وهم أهل الموصل في الزمن القديم. قال ابن سعيد: وهم من ولد جرموق. بن أشور، بن سام، بن نوح عليه السلام، وقال غيره: من ولد كاثر، بن إرم، بن سام.
الثالثة: الجيل بكسر الجيم وسكون المثناة تحت ولام في الآخر، وهم أهل كيلان من بلاد الشرق، قال ابن سعيد: وهم من بني باسل، بن أشور، بن سام، بن نوح عليه السلام.
الرابعة: الخزر بفتح الخاء والزاي المعجمتين وراء مهملة في الآخر، وهم التركمان. في الإسرئيليات أنهم من ولد توغربحا، بن كومر، بن يافث، بن نوح، وقيل هم من بني طيراش بن يافث، وقيل نوع من الترك.
الخامسة: الديلم بفتح الدال المهملة وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام وميم في الآخر، وهم الذين كان منهم ملوك بني بويه الخارجين على خلفاء بني العباس ببغداد. قال في العبر: هم من بني ماداي، بن يافث، بن نوح؛ وقال ابن سعيد: من بني باسل، بن أشور، بن سام، بن نوح؛ وقيل هم من العرب وضعفه أبو عبيد.
السادسة: الروم وضبطهم معروف، وهم الأمة المعروفة الذين منهم ملوك القسطنطينية الآن؛ قيل هم من بني كيتم بن يونان. وهو يابان، بن يافث، بن نوح؛ وقيل من ولد رومي، بن يونان، بن علجان، بن يافث، بن نوح، وقيل من ولد رعويد بن عيصو، بن إسحاق، بن إبراهيم عليه السلام. وقال الجوهري: من ولد روم، بن عيصون بن إسحاق.
السابعة: السريان بضم السين وسكون الراء المهملتين وفتح الياء المثناة تحت وألف ثم نون، قال ابن الكلبي: من بني سوريان، بن نبيط، بن مائ، بن آدم، بن سام، بن نوح.
الثامنة: السند بكسر السين المهملة وسكون النون ودال مهملة في الآخر في الإسرائيليات أنهم من ولد شبا، بن رعما، بن كوش، بن حام، ابن نوح؛ وحكى الطبري عن ابن إسحاق: أنهم من بني كوش بن حام.
التاسعة: السودان وضبطهم معروف. قال ابن سعيد: جميع أحيائهم من ولد حام بن نوح، ونقل الطبري عن ابن إسحاق: أن الحبشة من ولد كوش بن حام والنوبة، والزنج، والزغاوة من ولد كنعان بن حام، وذكر ابن سعيد: أن الحبشة من بني حبش والنوبة من ولد نوبة أو بني نوبي، والزنج من بني زنج، ولم يرفع في نسبهم فيحتمل أنهم من بني حام، وأنهم من بني غيره.
العاشرة: الصقالبة بفتح الصاد المهملة وفتح القاف وألف بعدها لام مكسورة وباء موحدة مفتوحة وهاء في الآخر، وهم عند الإسرائيلين من بني بازان بن يافث بن نوح، وقيل هم من بني اشكتاز، بن توغرما، بن كومر، بن يافث.
الحادية عشر: الصين وضبطهم معروف، وقيل هم من بني صيني، بن ماغوغ، بن يافث، بن نوح؛ وقيل من بني طوبال بن يافث. وذكر هرشيوش مؤرخ الروم أنهم من بني ماغوغ بن يافث.
الثانية عشرة: العبرانيون بكسر العين المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وألف بعدها نون مكسورة وياء مثناة تحت مشددة مضمومة وواو ساكنة ثم نون، وهم الذين يتكلم اليهود بلسانهم إلى الآن. قال الطبري: وهم من ولد عابر، بن شالخ، بن أرفخشذ، بن سام، بن نوح.
الثالثة عشرة: الفرس بضم الفاء وسكون الراء المهملة وسين مهملة في الآخر، وهم الذين كان منهم ملوك الأكاسرة. قال ابن إسحاق: هم من ولد فارس، بن لاوذ، بن سام، بن نوح. وقال ابن الكلبي: هم من ولد فارس، ابن طيراش، بن أشور، بن سام، بن نوح، وقيل من ولد طيراش، بن همدان، بن يافث، بن نوح، وقيل من بني أميم، بن لاوذ، بن سام. ووقع لطبري أنهم من ولد رعويل، بن عيصو، بن إسحاق؛ بن إبراهيم عليه السلام. قال في العبر: ولا التفات إلى هذا القول لأن ملك الفرس أقدم من ذلك.
الرابعة عشرة: الفرنج بفتح الفاء والراء المهملة وسكون النون وجيم في الآخر، وقيل من ولد طوبال، بن يافث؛ وقيل نم ولد غطرما، بن كومر، بن يافث.
الخامسة عشرة: القبط بكسر القاف وسكون الباء الموحدة وطاء مهملة في الآخر، وهم الذين كان منهم أهل مصر في القديم. قال إبراهيم بن وصيف شاه: هم من بني قبطيم، بن قفط، بن مصر، بن بيصر، بن حام، ابن نوح، وعند الإسرائيليين أنهم من ولد قفط بن حام.
السادسة عشرة: القوط بضم القاف وسكون الواو وطاء مهملة في الآخر، وهم أهل الأندلس في القديم. قال هرشيوش: هم من ولد ماغوغ، ابن يافث، بن نوح، وقيل هم من ولد قوط، بن حام، بن نوح.
السابعة عشرة: الكرد بضم الكاف وسكون الراء المهملة ودال مهملة في الآخر، وهم الذين كان منهم بنو أيوب ملوك مصر بعد الفاطميين. قال في العبر: هم من بني إيران بن أشور، بن سام، بن نوح، قال المقر الشهابي ابن فضل الله في كتابه التعريف: ويقال في المسلمين الكرد، وفي الكفار الكرج، وحينئذ فيكون الكرد والكرج نسباً واحداً.
الثامنة عشرة: الكنعانيون بفتح الكاف وسكون النون وفتح العين المهملة وضم الياء المثناة تحت المشددة، وهم الذين كان منهم جبابرة الشام من ولد كعنان بن حام، بن نوح.
التاسعة عشرة: اللمان بلام مفتوحة وميم بعدها ألف ونون، وهم الذين كانوا قصدوا سواحل الشام في الدولة الأيوبية ومواطنهم في شمالي البحر الرومي غرباً بشمال. قال في العبر: وهم من ولد طوبال، بن يافث، بن نوح.
العشرون: النبط بفتح النون والباء الموحدة وطاء مهملة في الآخر، وهم أهل بابل من العراق في الزمن القديم، وإليهم تنسب الفلاحة النبطية لابن وحشية. قال ابن الكلبي: هم من بني نبيط. بن ماس، بن إرم، بن سام، بن نوح. وقال ابن سعيد: هم من بني نبيط، بن أشور، بن سام، بن نوح.
الحادية والعشرون: الهند وضبطه معروف. في الإسرائليات أنهم من ولد دادان، بن رعما، بن كوش، بن حام، ونقل الطبري عن ابن إسحاق أنهم من بني كوش، بن حام، بن نوح من غير واسطة.
الثانية والعشرون: الأرمن بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة وفتح الميم ونون في الآخر، وهم أهل أرمينية الذين بقاياهم ببلاد سيس، قيل هم من ولد قهويل، بن ناحور، بن تارخ، وهو أزر، وتارخ أبو إبراهيم عليه السلام.
الثالثة والعشرون: الأشبان بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة وألف ثم نون، قيل هم من ولد ماشح، بن يافث، بن نوح. وعند الإسرائيليين من ولد ياوان وهو يونان بن يافث، وعند آخرين أنهم من شعوب بني عيصو بن إسحاق؛ وقال الطبري: أشك أنهم من ولد رعويل بن عيصو بن إسحاق، وهو قريب من الذي قبله.
الرابعة والعشرون: اليونان؛ وهم الأمة الذين كان منهم الحكماء شرقي الخليج القسطنطيني، وهم من ولد يونان، وهو ياوان، بن يافث، بن نوح. وقال البيهقي: هم من ولد يونان، بن خلجان، بن يافث. وشذ الكندي فقال: يونان، بن عابر، بن شالخ، بن أرفخشذ، بن سام بن نوح؛ فجعل يونان أخاً لقحطان أبي عرب اليمن. وقال: إنه خرج من بلاد العرب مغاضباً لأخيه قحطان فنزل شرقي الخليج القسطنطيني؛ ورد عليه أبو العباس الناشي بقوله:
تخل يوناناً بقحطان ضلة ** لعمري لقد باعدت بينهما جداً

ثم اليونانية على ثلاثة أصناف: اللطينيون، وهم بنو لطين بن يونان، والإغريقيون، وهم بنو إغريقن بن يونان، واللكيم، وهو بنو اللكيم بن يونان، وهي أصل الروم فيما يقال على ما تقدم.
الخامسة والعشرون: زويلة، بضم الزاي وفتح الواو وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام وهاء في الآخر، وهم أهل برقة في القديم، ومنهم الطائفة الذين وصلوا صحبة جوهر المعزي باني القاهرة المنسوب إليهم باب زويلة بالقاهرة، يقال إنهم من بني حوبلا بن كوش بن حام بن نوح.
السادسة والعشرون: يأجوج ومأجوج، وضبطهما معروف. قيل إنهم من ولد ماغوغ، بن يافث، بن نوح؛ وقيل من ولد كومر، بن يافث.

.النوع الثالث عشر: المعرفة بمفاخرات الأمم ومنافراتهم وما جرى بينهم في ذلك من المحاورات والمراجعات والمناقضات:

وفيه مقصدان:
المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى ذلك:
لا خفاء أنه يتعين على الكاتب معرفة المفاخرات الواقعة بينهم، من معرفة وجوه الافتخار التي يمدح بمثلها: مما يستعان بمثله على المدح والإطراء الواقع في الولايات وما يفضل به كل واحد من البلغاء على خصمه، وما يرد عليه من الأجوبة المبطلة له لينسج على منوال ذلك فيما يرد عليه من الخاطبات، والمكاتبات عند دعاية ضرورته إليه، واحتياجه إلى إيراده.
المقصد الثاني في ذكر أنوذج من المفاخرات والمنافرات ينسج على منواله:
فأما المفاخرات، فمنها ما روي لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بني تميم سنة الوفود بعد فتح مكة، فيهم عطارد بن حاجب، بن زرارة، بن عدس التميمي، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن زيد، وعتبة ابن حصن بن حذيفة بن بدر، والأقرع بن حابس، في لفهم ولفيفهم، ودخلوا المسجد ونادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد، فتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من صياحهم فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» فقام عطارد ابن حاجب فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل منها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عدداً، وأشده عدة؛ فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددناه، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام ولكنا تنحينا عن الإكثار، وأقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لثابت بن قيس الخزرجي: «قم فأجب الرجل في خطبته» فقام ثابت بن قيس فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه ولم يكن شيء قط إلا من فعله؛ ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمه نسباً، وأصدقه حديثاً وأفضله حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ وكان خيرة من العالمين؛ ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحساباً، وأحسنهم وجوهاً، وخير الناس فعالاً؛ ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن فنحن أنصار الله، ووزراء رسول الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله متع بماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً؛ أقول هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
فقام الزبرقان بن بدر التميمي فقال:
نحن الكرام فلا حي يفاخرنا ** منا الملوك وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهم ** عند النهاب وفضل العز يتبع

ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ** من الشواء إذا لم يونس القزع

وهي أبيات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لحسان بن ثابت: «قم فأجب الرجل فيما قال». فقال حسان رضي الله عنه:
إن الذوائب من فهر وإخواتهم ** قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كل من كنت سريرته ** تقوى الإله وكل الخير يصطنع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ** أو حأولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة ** إن الخلائق فاعلم شرها البدع

إن كان في الناس سباقون بعدهم ** فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ** عند الدفع ولا يوهون ما رقعوا

أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ** إذا تفاوتت الأهواء والشيع

وهي أبيات.
ويروى أن الزبرقان بن بدر قال:
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ** إذا اختلفوا عند احتضار المواسم

فإنا فروع الناس في كل مواطن ** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وإنا بدور العالمين إذا انتخوا ** ونضرب رأس الأصيد المتفاقم

وإنا لنا المرباع في كل غارة ** نغير بنجد أو بأرض الأعاجم

فقام حسان بن ثابت فأجابه فقال:
هل المجد إلا السود العود والندى ** وجاه الملوك احتمال العظائم

نصرنا وآوينا النبي محمداً ** على أنف راض من معد وراغم

نصرناه لما حل وسط ديارنا ** بأسيافنا من كل باغ وظالم

جعلنا بنينا دونه وبناتنا ** وطبنا له نفساً بفيء المغانم

ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا ** على دينه بالمرهفات الصوارم

ونحن ولدنا من قريش عظيمها ** ولدنا نبي الخير من آل هاشم

بني دارم لا تفخروا إن فخركم ** يعود وبالاً عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم ** لنا خول من بين ظئر وخادم؟

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ** وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا ** ولا تلبسوا زياً كزي الأعاجم

فلما فرغ حسان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي! إن هذا الرجل مراد، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواته أعلى من أصواتنا؛ فأسلموا وأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوائزهم.
ففي هذا الوفد نزل {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم}.
قلت: وهذه مكابرة ظاهرة، وتجاهل فاحش من بني تميم، حيث طلبوا المفاخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل العرب على اختلاف شعوبهم. وتتابع قبائلهم معترفون لبني هاشم بالسبق في الشرف، والتقدم في الفضل، مع ما فضل الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم، وخصه به من رفيع الشرف الذي لم يبلغه نبي مرسل، ولا ملك مقرب.
وقد تعرض أبو نواس في بعض أشعاره لمدح بني تميم، وبالغ في فخرهم فأفحش، فقال:
خزيمة خير بني خازم ** وخازم خير بني دارم

ودارم خير تميم وما ** مثل تميم في بني آدم

ونقضه عليه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس اليعمري، فقال رحمه الله فأجاد القول، وفاز بالقدح المعلى فقال:
محمد خير بني هاشم ** فمن تميم وبنو دارم؟

وهاشم خير قريش وما ** مثل قريش في بني آدم!

وهو مأخوذ ن قول الأول:
قريش خيار بني آدم ** وخير قريش بنو هاشم

وخير بني هاشم أحمد ** رسول الإله إلى العالم

وإليه ينظر قول ابن عرسية:
لله مما قد برا صفوة ** وصفوة الخلق بنو هاشم

وصفوة الصفوة من بينهم ** محمد النور أبو القاسم

ولقد أنصف إسحاق بن إبراهيم الموصلي حيث قال:
إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ** وقام بنصري خازم وابن خازم

عطست بأنف شامخ وتنأولتيداي الثريا قاعداً غير قائم فإنه جعل مضر التي هي أرومة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصل فخره وقعدد سؤدده فأصاب الفخر في قوله، وفاز بالشرف في شعره.
قال المولى صلاح الدين الصفدي رحمه الله في شرح لأمية العجم: وإنما ذكر خازماً لأنه مولى خزيمة بن خازم التميمي، وإنما نزل أبوه الموصل فنسب إليها.
ومن لطيف ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان كان جالساً وعنده جماعة من الأشراف، فقال معاوية: من أكرم الناس أباً وأماً، وجداً وجدة، وعماً وعمة، وخالاً وخالة؟ فقام النعمان بن العجلان الزرقي بعدما أخذ بيد الحسن فقال: هذا أبوه علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدته خديجة، وعمه جعفر، وعمته أم هانئ ابنة أبي طالب، وخاله القاسم، وخالته زينب، فهذا هو الشرف الذي لا يداني والفضل الذي لا يبارى.
وقريب من ذلك ما يحكى أنه جرى بني عبد الله بن الزبير وبين معاوية كلام طويل في آخره. فقال ابن الزبير: ما مثلي يهارش، ولكن عندك من قريش والأنصار، ومن ساكني الحجون والآطام من إن سأتله حملك على محجة أبين من ظهر الجفير. قال: ومن ذلك. قال هذا؟
- يعني أبا الجهم بن حذيفة- فقال معاوية تكلم يا أبا الجهم. فقال: أعفني. فقال عزمت عليك لتقولن، قال: نعم: أمك هند، وأمه أسماء بنت أبي بكر، وأسماء خير من هند، وأبوك أبو سفيان وأبوه الزبير ومعاذ الله أن يكون أبو سفيان مثل الزبير، وأما الدنيا فلك، وأما الآخرة فله إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما حكاه ابن الكلبي. قال: قال كسرى للنعمان بن المنذر يوماً هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة؟ قال نعم. قال فبأي شيء؟ قال: من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته فيه وينسب إليه. قال فاطلب ذلك فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر، وآل حاجب بن زرارة، وآل ذي الجدين، وآل الأشعث بن قيس ابن كندة. قال فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول، وقال ليتكلم كل رجل منم بمآثر قومه وليصدق، فكان حذيفة بن بدر الفزاري أول متكلم، وكان ألسن القوم؛ فقال: قد علمت العرب أن فينا الشرف الأقدم والأعز الأعظم، ومأثرة للضيع الأكرم، فقال من حوله ولمن ذاك يا أخا فزارة؟ فقال ألسنا الدعائم التي لا ترام، والعز الذي لا يضام؟ قيل صدقت. ثم قام شاعرهم فقال:
فزارة بنت العز والعز فيهم! ** فزارة قيس حسب قيس نضالها

لها العزة القعساء والحسب الذي ** بناه لقيس في القديم رجالها

فهيهات قد أعيا القرون التي مضت ** مآث قيس مجدها وفعالها

وهل أحد إن هز يوماً بكفه ** إلى الشمس في مجرى النجوم ينالها

فإن يصلحوا يصلح لذاك جميعها ** وإن يفسدوا من الناس حالها

ثم قام الأشعث الكندي، وإنما أذن له أن يقوم قبل ربيعة وتميم لقرابته من النعمان بن المنذر، فقال: قد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكثر، وزحفها الأكبر، وإنا لغياث الكرات، ومعدن المكرمات. قالوا ولم يا أخا كندة؟ قال لأنا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه، وتقلدنا منكبه الأعظم، وتوسطنا بحبوحه الأكرم، ثم قال شاعرهم، فقال:
إذا قست أبيات الرجال ببيتنا ** وجدت لنا فضلاً على من يفاخر

فمن قال كلا أو أتانا بخطة ** ينافرنا فيها فنحن نخاطر

تعالوا قفوا كي يعلم الناس أينا ** له الفضل فيما أورثته الأكابر

ثم قام بسطام الشيباني فقال: قد علمت العرب أنا بناة بيتها الذي لا يزول، ومعغرس عزها الذي لا يحول، قالوا ولم يا أخا شيبان؟ قال لأنا أدركهم للثار، وأضربهم للملك الجبار، وأقومهم للحكم، وألدهم للخصم؛ ثم قام شاعرهم فقال:
لعمري بسطام أحق بفضلها ** وأول بيت العز عز القبائل

فسائل أبيت اللعن عن عز قومها ** إذا جد يوم الفخر كل مناقل

ألسنا أعز الناس قوماً ونصرة ** وأضربهم للكبش بين القبائل

وقائع عز كلها ربيعة ** تذل لها عزاً رقاب المحافل

وإذا ذكرت لم ينكر الناس فضلها ** وعاذ بها من شرها كل وائل

وإنا ملوك الناس في كل بلدة ** إذا نزلت بالناس إحدى الزلازل

ثم قام حاجب بن زرارة التميمي، فقال: قد علمت معد أنا فرع دعامتها، وقادة زحفها. قالوا: ولم ذاك يا أخا بني تميم؟ قال لأنا أكثر الناس عديداً، وأنجبهم طراً وليداً، وأنا أعطاهم للجزيل، وأحملهم للثقيل؛ ثم قام شاعرهم فقال:
لقد علمت أبناء خندف أننا ** لنا العز قدماً في الخطوب الأوائل

وأنا كرام أهل مجد وثروة ** وعز قديم ليس بالمتضائل

فكم فيهم من سيد وابن سيد ** أغر نجيب ذي فعال ونائل

فسائل ابيت اللعن عنا فإننا ** دعائم هذا الناس عند الجلائل

ثم قام قيس بن عاصم السعدي فقال: لقد علم هؤلاء أنا أرفعهم في المكرمات دعائم، وأثبتهم في النائبات مقادم؛ قالوا: ولم ذاك يا أخا بني سعد؟ قال لأنا أدركهم للثار، وأمنعهم للجار، وأنا لا ننكل إذا حملنا، ولا نرام إذا حللنا. ثم قام شاعرهم فقال:
لقد علمت قيس وخندف أننا ** وجل تميم والجميع الذي ترى

بأنا عماد في الأمور وأننا ** لنا الشرف الضخم المركب في الندى

وأنا ليوث الناس في كل مأزق ** إذا جز بالبيض الجماجم والطلى

فمن ذا ليوم الفخر يعدل عاصماً ** وقيساً إذا مرت ألوف إلى العلا

فهيهات قد أعيا الجميع فعالهم ** وقاموا بيوم الفخر مسعاة من سعى

فقال كسرى حينئذ: ليس منهم إلا سيد يصلح لموضعه؛ وأسنى حباءهم، وأعظم صلاتهم، وكرم مآبهم.
قال أبو عبيدة: كانت العرب تعد البيوتات المشهورة بعظم القدر والشرف: تعد بيت هاشم بن عبد مناف، وتعد أربعة، أولها بيت آل حذيفة ابن بدر، وبيت آل زرارة الدارميين: بيت بني تميم، وبيت آل ذي الجدين: عبد الله بن عمرو بن الحارث بن هشام: بيت بني شيبان، وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب بيت اليمن. قال: فأما كندة فلا يعدون في البيوتات إنما كانوا ملوكاً.
واعلم أن المفاخرة قد تكون بحقيقة الحسب. وقد تقوم فيها الفصاحة واللسن مقام الحسب: كقول أبي تمام الطائي يفتخر:
أنا ابن الذين استرضع المجد فيهم ** وسمي فيهم وهو كهل ويافع

مضوا وكأن المكرمات لديهم ** لكثرة ما وصوا بهن شرائع

فأي يد في المجد مدت فلم يكن ** لها راحة من مجدهم وأصابع

هم استودعوا المعروف محفوظ مالنا ** فضاع وما ضاعت لدينا الودائع

وقوله أيضاً:
جرى حاتم في خلبة منه لو جرى ** بها القطر شأوا قيل أيهما القطر؟

فتى ذخر الدنيا أناس ولم يزل ** لها باذلاً فانظر لمن بقي الذخر

فمن شاء فليفخر بما شاء من ندى ** فليس لحي غيرنا ذلك الفخر

جمعنا العلا بالجود افتراقها ** إلينا كما الأيام يجمعها الشهر

قال في شرح اللأمية: وعند أكثر الناس أن أبا تمام كان أبوه نصرانياً يقال له تدرس العطار، من جاسم: قرية من قرى حوران من الشام، فغير اسم أبيه واندس في بني طيئ؛ وذكر صاحب الأغاني أن رجلاً قال لجرير: من أشعر الناس؟ قال: قم حتى أعرفك الجواب، فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية، وقد أخذ عنزاً له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها، فصاح به اخرج يا أبت، فخرج شيخ دميم، رث الهيئة. وقد سال لبن العنز على لحيته، فقال ترى هذا؟ قال نعم. قال أو تعرفه؟ قال لا. قال هذا أبي، أوتدري لم كان يشرب من ضرع العنز؟ قال لا، قال مخافة أن يسمع صوت الحب فيطلب منه، ثم قال اشعر الناس من فاخر بهذا الأب ثمانين شاعراً وقارعهم فغلبهم.
قال الصلاح الصفدي: ما هذه إلا وقاحة عظيمة من جرير في مفاخرته أولئك الشعراء وهذا أبوه، لكنه تغفر له هذه الوقاحة باعترافه لذلك الرجل، وإظهار بخل أبيه.
وربما كان الافتخار بالتورية والتعريض بالأمور المقتضية للشرف، بحيث يظن السامع حقيقة الافتخار والشرف بمجرد السماع، فإذا عرف المقصد تبين له خلاف ذلك، كقول أبي الحسن الجزار:
ألا قل للذي يسأ ** ل عن قومي وعن أهلي

لقد تسأل عن قوم ** كرام الفرع والأصل

يريقون دم الأنعا ** م في حزن وفي سهل

وما زالوا لما يبدو ** ن من باس ومن بذل

يرجيهم بنو كلب ** ويخشاهم بنو عجل

وقوله أيضاً:
إني لمن معشر سفك الدماء لهم ** دأب وسل عنهم من رب تحقيق

تضيء بالدم إشراقاً قواضبهم ** فكل أيامهم أيام تشريق

وعلى هذا المنهج ما حكاه بعضهم، قال: وجدت على قبر مكتوباً: أنا ابن من كانت الريح طوع أمره، يحبسها إذا شاء، ويطلقها إذا شاء، قال فعظم في عيني، ثم التفت إلى قبر آخر قبالته فإذا عليه مكتوب: لا يغتر أحد بقوله، فما كان أبوه إلا بعض الحدادين، يحبس الريح في كيره إذا شاء، ويرسلها إذا شاء؛ قال: فعجبت منهما يتسابان ميتين. فإذا طرق السمع شيء من ذلك ظن السامع أنه في غاية الفخر والشرف حتى يعلم حقيقته؛ وأشباه ذلك ونظائره كثيرة، وليس هذا موضع استيعاب القول في المفاخرة الحقيقية ولا غيرها.
وأما أيام المنافرة وهي المحاكمة في الحسب، فمن ذلك ما يحكى أن الأعشى أتى علقمة، بن علاثة، بن عوف، بن الأحوص، بن جعفر، بن كلاب، وهو يريد سلامة ذو فائش الحميري من التبابعة، فسأل الأعشى علقمة أن يتليه أي يجيره، فقال له علقمة: أتليك على بني الأحوص، قال لا يقنعني، قال: فعلى بني كلاب، قال لا يقنعين، قال: فليس عندي أكثر من هذا؛ فأتى عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، قال قد أتليك على الجن والإنس، ثم أتى سلامة فانصرف من عنده بحبائه.
وكان عامر وعلقمة المذكوران لما أسن أبو براء وهو عامر بن مالك، بن جعفر، بن ملاعب الأسنة، تنازعا في الرياسة، فقال علقمة: كانت لجدي الأحوص وإنما صارت لعمك بسببه، وقد قعد عمك عنها وأنا استرجعتها فأنا أولى بها منك، فشري الشر بينهما وسارا إلى المنافرة، وقدم الأعشى على تفيئة ذلك فصار هو ولبيد مع عامر، وصار مع علقمة الحطيئة، والسندري، وتنافرا.
فقال عامر لعلقمة: الله إني لأكرم منك حسباً، وأثبت منك نسباً، وأطول منك قصباً.
فقال علقمة: واله لأنا خير منك ليلاً ونهاراً.
فقال عامر: والله لأنا أحب إلى نسائك أن أصبح فيهن منك.
فقال علقمة: أنافرك إني لبر، وإنك لفاجر، وإني لولود، وإنك لعاقر، وإني لعف، وإنك لعاهر؛ وإني لواف، وإنك لغادر.
فقال عامر: أنت رجل ولود وأنا رجل عقيم وقد وفيت لبني عمرو بن تميم. وقد زعموا أني غدرت بهم وهم كاذبون؛ ولكني أنافرك: أنا أنحر منك للقاح، وخير منك في الصباح، وأطعم منك في السنة الشياح.
فقال علقمة: أنت رجل تقاتل والناس تزعم أني جبان؛ ولأن تلقى العدو وأنا أمامك أعزلك من أن تلقاهم وأنا خلفك؛ وأنت رجل جواد والناس يزعمون أني بخيل ولست كذلك، وأنت تعطي العشيرة إذا ألمت؛ ولكني أنافرك: أنا خير منك أثراً، وأحد منك بصراً، وأشرف منكم ذكراً.
فقال عامر: أنت رجل فان، وليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد، وبصري ناقص وبصرك صحيح، ولكني أنافرك أني أسمى منك سمة، وأطول منك قمة، وأحسن منك ملة، وأجعد منك جمة، وأسرع منك رحمة، وأبعد منك همة.
فقال علقمة: أنت رجل جسيم وأنا رجل قضيف، وأنت جميل وأنا قبيح، ولكني أنافرك بآبائي وأعمامي.
فقال عامر: آباؤك أعمامي، ولم أكن لأنافرك فيهم؛ ولكني أنافرك: أنا خير منك عقباً، وأطعم منك جدباً.
فقال علقمة: قد علمت أن لك عقباً وقد أطعمت طيباً؛ ولكني أنافرك أني خير منك، وأولى بالخير منك.
فقال عامر: إني والله لأركب منك في الحماة، وأقتل منك للكماة، وخير منك للموالاة.
فقال بعض بني خالد بن جعفر، وكانوا يداً مع بني الأحوص على بني مالك بن جعفر: إنك لن تطيق عامراً، ولكن قل له أنافرك لخيرنا، وأقربنا للخيرات.
فقال علقمة: له ذلك.
فقال عامر: عير وتيس وعنز فأرسلها مثلاً نعم على مائة من الإبل إلى مائة يعطاها الحكم أينا ينفر عليه صاحبه أخرجها ففعلوا، ووضعوا بها رهناً من أبنائهم على يدي رجل يقال له خزيمة بن عمرو بن الوحيد فسمي الضمين، وصارت علماً عليه إلى الآن، وخرج علقمة من معه من بني خالد وعامر فيمن معه من بني مالك وقد أتى عامر بن الطفيل عمه عامر بن مالك بن جعفر وهو أبو براء، فقال: يا عماه أعني. فقال: يا ابن أخي سبني، فقال: لا أسبك وأنت عمي. قال: فسب الأحوص. فقال عامر: ولا أسب والله الأحوص وهو عمي، فقال: ولكن دونك بعلي فإني قد ربعت فيها أربعين مرباعاً فاستعن بها على منافرتك. وجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية فلم يقل بينهما شيئاً، وكره ذلك لحالهما وحال عشيرتهما، وقال لهما أنتما كركبتي البعير الأدرم، وأبى أن يقضي بينهما، فانطلقا إلى أبي جهل بن هشام، فأبى أن يقضي بينهما، فوثب مروان بن سراقة، بن قتادة، بن عمرو، بن الأحوص وكان مع علقمة فقال:
يا لقريش بينوا الكلاما ** إنا رضينا منكم الأحكاما

فبينوا إذ كنتم الحكاما ** كان أبونا لهم إماما

وعبد عمرو منع الفئاما ** في يوم فخر معلم إعلاما

يحسن فيه الكر والإقداما ** ودعلج أقدمه إقداما

لولا الذي أجشمتهم إجشاما ** لاتخذتهم مذحج أنعاما

فأبوا أن يقولوا بينهما شيئاً، فأتيا غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي فردهما إلى حرملة بن الأشعر المري، فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان الفزاري، وإنهما ساقا الإبل معهما حتى أشتت وأربعت لا يأتين أحداً إلا هاب أن يقضي بينهما، فوعدهما هرم إلى العام ألقابر، فأتيا للوعد، وقال لبيد وكان مع عامر يومئذ يرتجز:
يا هرم وأنت أهل عدل

هل يذهبن فضلهم لفضلي

إن يفخر الأحوص يوماً قبلي

ليذهبن أهله بأهلي

لا تجمعن شكلهم وشكلي

ونسل آبائهم ونسلي

قد علموا أنا كرام الأصل

وقال أيضاً:
إني امرؤ من مالك بن جعفر

علقم قد نافرت غير منفر

نافرت سقباً من سقاب العرعر

فقال قحافة بن عوف بن الأحوص بن جعفر:
نهنه إليك الشعر يا لبيد ** واصدد فقد ينفعك الصدود

ساد أبونا قبل أن تسودوا ** سوددكم صغيره زهيد

ثم قال:
إني إذا ما نسي الحياء

وضاع يوم المشهد اللواء

أنمى وقد حق لي النماء

غلى كهول ذكرها سناء

إذ لا تزال حلوة كوماء

مبقورة لسقبها رغاء

لم ينهنا عن نحرها الصفاء

لنا عليكم سورة ولاء

المجد والسودد والعطاء

ثم قال:
أنتم عزلتم عامر بن مالك

في سنوات مضر الهوالك

يا شر أحياء وشر هالك

وكان السندري مع علقمة فارتفع صوته، فقيل من ذا؟ فقال:
أنا لمن أنكر صوتي السندري

أنا الفتى الجعد الطوال الجعفري

من ولد الأحوص أخوالي غني

فقال عامر للبيد: أجبه! فرغب عن إجابته، وكان السندري يقال لجدته عيساء، وكانت أمة لفاختة ابنة جعفر بن كلاب، امرأة شريح بن الأحوص، فوقع عليها شريح فولدت له زبان، ويزيد، وشهاباً، فقال لبيد:
لما دعاني عامر لأسبهم ** أبيت وإن كان ابن عيساء ظالما

ألا أينا ما كان شراً لمالك ** فلا زال يلقى في الحياة الملاوما

لكيلا يكون السندري نديدنا ** وأشتم أعماماً عموماً عماعما

وأنشر من تحت القبور أبوة ** كراماً هم شدوا علي التمائما

لعبت على أكتافهم وحجورهم ** وليداً وسموني وليداً وعاصما

بلى أينا ما كان شراً لمالك ** فلا زال في الدينا ملوماً ولائما

ووثب الحطيئة فقال:
ما يحسن الحكام بالفضل بعدما ** بدا سابق ذو غرة وحجول؟

حتى أتى على قصيدة كاملة، ثم قال:
يا عام قد كنت ذا باع ومكرمة ** لو أن مسعاة من جاريته أمم

وأقام القوم على ذلك أياما فأرسل هرم إلى عامر فأتاه سرا لا يعلم به أحد، فقال: يا عامر كنت أحسب أن لك رأياً، وأن فيك خيراً، وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك؛ أتنافر رجلاً لا تفخر أنت ولا قومك إلا بآبائه، فما الذي أنت به خير منه؟ فقال عامر: أنشدك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة، فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبداً! هذه ناصيتي لك فاجززها واحتكم في مالي، فإن كنت لا بد فاعلاً فسو بيني وبينه، فقال انصرف فسوف أرى رأيي: فخرج عامر وهو لا يشك أنه سيفضله عليه؛ ثم أرسل إلى علقمة سراً، وقال له مثل ما قال لعامر، فرد عليه علقمة بما رد به عامر وانصرف وهو لا يشك أنه ينفر عامراً عليه؛ ثم إن هرماً أرسل إلى أخيه وبني أخيه: إني قائل غداً بين هذين الرجلين مقالة، فإذا فرغت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة، وليطرد بعضكم مثلها فلينحرها عن عامر، وفرقوا بين الناس أن لا يكون لهم جماعة. وأصبح هرم فجلس مجلسه وأقبل الناس، وأقبل علقمة وعامر حتى جلسا، فقال لبيد:
يا هرم ابن الأكرمين منصبا

إنك قد وليت أمراً معجبا

فاحكم وصوب رأي من تصوبا

إن الذي كنت عليه ترتبا

لخيرنا خالاً وأما وأبا

وعامر خيرهما مركبا

وعامر أدنى لقيس نسبا

فقال هرم: إنكما يا بني جعفر قد تحاكمتما عندي وأنتما كركبتي البعير الفحل تقعان الأرض معاً، فليس منكما واجد إلا وفيه ما ليس في صاحبه، وكلاكما سيد كريم، فعمد بنو هرم وبنو أخيه إلى تلك الجزر فنحروها حيث أمرهم هرم، وفرقوا بين الناس، ولم يفضل هرم واحداً منا على صاحبه، وكره أن يجلب بذلك شراً على الفئتين، وهما ابنا عم؛ فلما رأى ذلك الأعشى، خرج وهو يقول:
شاقك من قتلة أطلالها ** بالشط فالوتر إلى حاجر

وقد رآها وسط أترابها ** في الحي ذي البهجة الثامر

إذا هي مثل الغصن هيالة ** تروق عيني ذي الحجا الزائر

كدمية صور محرابها ** بمذهب في مرمر مائر

تشفي غليل النفس لاه بها ** حوراء تسبي نظر الناظر

عهدي بها في الحي قد سربلت ** هيفاء مثل المهرة الضامر

ممشوقة القد غلأمية ** موصوفة بالخلق الطاهر

قد نهد الثدي على نحرها ** في مشرق ذي صبح نائر

لو اسندت ميتاً إلى نحرها ** عاش ولم ينقل إلى قابر

حتى يقول الناس مما رأوا ** يا عجباً للميت الناشر

علقم ما أنت إلى عامر ** الناقض الأوتار والواتر

والفارس الخيل بخيل إذا ** ثار غبار الكبة الثائر

سدت بني الأحوص لم تعدهم ** وعامر ساد بني عامر

إن الذي فيه تماريتما ** بين للسامع والناظر

حكمتموه فقضى بينكم ** أبلج مثل القمر الزاهر

لا يأخذ الرشوة في حكمه ** ولا يبالي غبن الخاسر

فأعدب الدهر متى سويا؟ ** كم ضاحك من ذا ومن ساخر؟

فاقن حياء أنت ضيعته ** مالك بعد الشيب من عاذر

ولست بالأكثر منهم حصى ** وإنما العزة للكاثر

أقول لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر!

علقم لا تسفه ولا تجعلن ** عرضك للوارد والصادر

قد قلت قولاً فقضى بينكم ** واعترف المنفور للنافر

وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر رضي الله عنه، فقال: يا هرم أي الرجلين كنت مفضلاً لو فعلت؟ فقال: لو قلت ذلك اليوم يا أمير المؤمنين، عادت جذعة، ولبلغت شعفات هجر، فقال عمر رضي الله عنه: نعم مستودع السر أنت يا هرم! مثلك فليستودع العشيرة أسرارهم، وغلى مثلك فليستضع القوم أحكامهم.
قال أبو عبيدة: ومات علقمة بحوران وهو والي عمر بن الخطاب. وأما عامر بن الطفيل فأصابته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابته الغدة ومات في بيت سلولية، فقال: أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية؟ وفي هذه القصة مقنع في المنافرة عن غيرها، وفي كتاب الريحان والريعان لبعض الأندلسيين جملة من هذه المفاخرات والمنافرات.